وإما أنك "فاشل" كبير في حياتك الزوجية -وربما الوظيفية والاجتماعية كذلك!- ومن ثم فأنت لا تملك غير هذه الأحلام للتسرية عن نفسك، وتحقيق الإشباع النفسي، وتعويض عجزك عن تحقيق ما تتمنى وتريد طوال عمرك! فتحاول من خلال تخيلاتك نيل ما تثق أنه مستحيل التحقق بالنسبة إليك واقعيًا، وتنتقم ممن تظنهم سببًا فيما وصلتَ إليه، وبالمرة تغذّي عشقك لذاتك وهوسك بقدراتك العظيمة الفـذة التــي لن تتكرر!
والاحتمال الأخير أن هذا "الفيلم العربي" حقيقي بالفعل، وساعتها لا يكون في نفوسنا منك لا اشمئزازًا ولا ضيقًا ولا رغبة في الانتقام كما تتخيل.. لكنها فقط "الشفقة" علـى مسكين مثلك!
فأنت عاجز عن الإحساس بطهارة نفسك، وبأنك تستحق رحمة الله سبحانه وتعالى، عاجز عن إيجاد هدف شريف تسعى إليه، عاجز عن التكيف مع الواقع بخيره وشره، وممارسة حياتك بشكل طبيعي وسوي، وعاجز عن الاستمتاع بمعاني الحب والأسرة والمودة والرحمة!
ومن كان مثلك، فقَدرٌ عليه أن يظل يجوب الدنيا، محطم الفؤاد، موزّع المشاعر، ظمآن لا يشبع ولو شرب نهر النيل ومثله معه، يخشاه الناس وتسبقه رائحة أعماله! مثل "الهولندي الطائر" وهو بحّار حكمت عليه اللعنة ألا ترسو سفينته على بر أبدًا، فظل هائمًا في البحار والمحيطات، يرى أضواء المدن والشواطئ من بعيد، يسمع ضحكات الناس وأفراحهم، لكنه أبدًا لا يستطيع أن يكون جزءًا منهم!!
حتى لو تظاهرتَ بالعكس على طول الخط، حتى لو رسمتَ على وجهك ابتسامة بلا معنى، حتى لو نطقتْ حروفك بالثقة والاستغناء!
فأنت لا تفهم معنى أن الله سبحانه وتعالى أنعم عليك، وأن لكل نعمة واجب شكر، وإلا زالت وتحولت نقمة! بل ربما تظن أنك قد أوتيت المال والصحة والقدرة على الإقناع، لعلمٍ لديك، ولقدرة فذة تملكها ولا يملكها سواكّ، كما قال "قارون" وهو يكفر بنعمة الله عز وجل ويجحد فضله عليه: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) "القصص _ 28"
لا تفهم معنى أن يفكر الإنسان فيمن حوله، وفي مسئولياته قبل أن يفكر في نفسه، باعتبار أن سعادة من حوله سعادة أكبر له! وهذه التي تمارسها، ليست سعادة يا سيدي، ولا طريقة لقضاء الحياة التي لا نملك غيرها في الدنيا، وإنما هي طريقة للانتحار البطيء، وحجز مكان فاخر في جهنم!
وفي مقابل كل خبائث النفس، فإن هناك عالمًا آخر، نقيًا تمامًا وحالمًا، يستطيع أن يقدّم لك، أكثر مما قدّم القبح وخداع الناس، يستطيع أن يهبك راحة الًبال التي لا تُدرّك بغير المجاهدة والصبر عليها، عالم اسمه: الحب، ولو كنت تحب نفسك أولًا قبل أن تحب مّن حولك، لاستطعت أن تتفهّم حاجاتها، ولبذلت كل ما تستطيع من أجل تحقيقها لها، ولكن -للأسف- فإن كل ما حكيت عنه، لا يدلّ إلا على شيء واحد فقط: أنك تكره نفسك وبشدة!!
لكنك تشعر بالقوة وبالسطوة والقدرة على التحكم في مقدرات من حولك، وتنسى على طول الخط الحكمة البليغة التي تقول: "إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس.. فتذكر قدرة الله عليك"!
فتذكّر يا سيدي، ولا تُطل الوقوف ببحر المعاصي والذنوب، لا تستكثر ما حصّلتَ في الدنيا، فمهما كثُر فهو قليل، ولا تستبطِئ موعد الحساب والعرض على المنتقم الجبار، فمهما تأخر فهو آتٍ.
اذهب إلى المستشفيات على قدميك وشاهد من فقد ساقه! كُل طعامًا فاخرًا وشاهد من لا يقوى على رفع يده لتغيير زجاجة المحلول التي يعيش عليها! ادخل لقضاء حاجتك وشاهد من يغسلون الكُلى باستمرار، ضع يدك في جيبك وأخرج نقودًا، وتذكر من لا يجد قوت يومه حقيقة لا خيالًا! ثم حدثني بعد ذلك من فضلك عن التجبر على خلق الله سبحانه وتعالى، وإهدار الحقوق، وسطوة المال وجبروت الصحة!
يا سيدي:
إن الله الذي كتب على نفسه الرحمة، كتب كذلك، أنه ليس بينه وبين دعوة المظلوم حجاب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كفى بالمرء إثمًا أن يضيّع من يعوُل، وقال ربنا رب العزة سبحانه في حديثه القدسي: البر لا يبلى والذنب لا ينسى والديان لا يموت.. اعمل ما شئت كما تدين تدان".
فأي راحة بال يمكنك أن تهنأ بها بعد؟! وإلى متى؟! وما قيمة جنة عرضها السماوات والأرض، إذا كان يعقبها جحيم أبدي وغضب ممن لا يغفل ولا ينام؟! أسال الله لك الهداية، وجلاء البصيرة، قبل أن تطبق عليك ذنوبك وتقودك إلى حيثُ لا رجوع.
مقالي الأسبوعي بجريدة الدستور المصرية- الأربعاء- 6-5-2009